الله يستجيب للدعاء (قصة قصيرة)
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (سورة الانبياء)
في يوم ماطر وربيعي وبعد نزهة في عليائه، جلس الله على مقربة من حافة النهر وسط مجموعة من الورود والشجيرات. اتكأ على شجرة معمرة غليظة وراسخة الجذور في السماوات. أخذ يتأمل نفسه وسط أجواء الربيع المرهفة. فجأة وهو يناجي نفسه بنفسه حول أمر ما، خطرت له فكرة إبداعية لم يكن قد نفذها مسبقاً! فكرة كانت تمر رؤاها بشكل طفيف بين الحين والآخر لأنها كانت إحدى الأفكار المرعبة لنوعه. قال الله محدثاً نفسه: لمَ لا أسمع وأستجيب؟ نعم! أستمع وأجيب دعوات المستغيثين بي!
كان الرب الواحد هنا متخذاً وضعاً مريحاً هواءً وهو ممدد جذعه بين السماوات والأرضين السبع. أخذ يتناول الفكرة بين خلده ويتفحصها ويعيد تكوينها عشرات لا بل ألوف المرات على عكس أفكاره السابقة التي لم تكن تكلفه سوى إشارة وامضة لحاشيته ويتم التنفيذ.
نهض الله بعنفوان من حديقته السماوية البديعة وركب حيوانه السماوي الخالد الذي ينقله عبر الطبقات والأكوان التي اخترعها هو منذ القدم. لوى عنان وحشه وركبه وبإيماءة منه وغمزة وثب الحيوان وبقدرة الرب الواحد وقف الله في ميدان عرشه والملائكة صافات حوله.
تناولت إحدى الملكات منه أوزاره وتناول أحد الملائكة عنه حيوانه الذي كان برأس حجري وجسد من الذهب الأصفر. تمشى الله في عزبته وصاح بالملائكة مبتهجاً على غير عادته! هلموا هلموا وتعالوا يا خلقي وملائكتي فبعزتي وجلالي لأسمعن لكم اليوم وغداً وكل يوم.
ذُهل جميع من في المكان من شدة ما سمعوا ورأوا! صاح صائحهم وهاج هائجهم وانبرى البقية يسبحون ويحمدون إكباراً وإجلالاً له وحده لا شريك له ولا كمثله شيء!
هبط جبرائيل تحت الله وراح يسأله بتودد وخنوع عن الشيء الذي أثار هواجس ربنا المحمود!
جلس الله في ركنه المزركش والمطرز بالنجوم والمجرات ويحيط به من كل صوب خدم وملائكة ورسل وأولياء صالحين. تناول قميصه الوردي الذي كان هدية أزلية عندما كان يفرح بغنج الصباحات في ريعان مراهقته.
لبس القميص الزهري وتأزر به ولف حوله وشاحاً من الصوف وسروالاً من الحرير الناعم. جلس على كرسي عرشه وتمتم ببعض الصلوات على محمد وآله وصحبه وسلم عليهم جميعاً. انتهى من الصلوات وهو في شكل بهي يليق برب الوجود الواحد الأحد الذي يريد أن يبدأ بداية جديدة ومختلفة الآن.
رفع هامته وتناول صولجاناً كان موضوعاً يميناً قرب كرسي عرشه. وقال: يا جبرائيل وميكائيل وعزرائيل هاتوا أسماعكم وأبصاركم وأفئدتكم. فاليوم أنا معلن لكم قدوم ظاهرة لم تُسبق من قبل! حادثة سوف أُزلزل بها كل ما سبغته من قبل وكل ما كان ضعيفاً. اليوم سوف أنهي لحظات العذاب والقهر والأسى والدماء وأحقق للمريدين والعباد كل ما يرنون وتصبو عيونهم وقلوبهم لأجله طوال هذه السنين الطويلة.
ملوحاً بيده ومفتخراً ومزهواً، أبعد الله غشاوة عن ناظره وأبصر للمرة الأولى في حياته! أزال عن قلبه وسمعه كل ما كان يثقل خاطره ويجعله حزيناً على هول ما صنعت منه الأيام من جبار عنيد.
رفع الله كلتا يديه وقال:
سوف أدعو لنفسي!
صعق الجمع وحدثت ربكة سممت الوجود بدخانات وأصوات فزع كبرى زمجرات لم تشهد لها الأكوان من قبل!
جبرائيل مفزوعاً يسقط مغشياً عليه. ميكائيل بلهجة محلية: ما.. ماذا.. ماذا قلت؟ سبحانك يا رب، لا تُسأل أنت عن أفعالك. وهاج الملكوت وماج.
خطفهم بنظرة بريئة محملة بالهدوء والسماحة والرغبة المتجددة والتدفق الروحي الأخاذ.
نعم كما سمعتم يا عبادي وجندي الصالحين. اليوم سوف أدعو لنفسي وأُستجاب وأُستجاب لمن دعاني ولمن يريد غايته وأُلبي مناه. اليوم سوف تكون دعوتي كدعوات الأمهات واليتامى والمتعبين من صروف الدهر ونوائبه.
يتحدث ويتحدث ويتحدث حتى كادت السماوات أن تنصهر وتنفجر وتختفي وتنشق وتبتلع الأرض والكواكب والمجرات ومن فيها ومن عليها.
الله الواحد الأحد فرحاً بما آتاه من نفسه وعزيزاً بما رأى. شعر بغمرة وغبطة وجرعة من السعادة البالغة وانتشى في عرشه المتين وراح ينادي على الملائكة بتوزيع أشهى المأكولات والأطياب لجميع الكائنات سواسية لأول مرة!
لأول مرة في حياة الله يُعدل شيئاً. كانت هذه اللحظة فارقة في تاريخ الوجود وأزليته. رقيقاً يناجي نفسه بلمسة الحنان والرقة ويقول: سوف أعدل وأُساوي بين الجميع وسوف أنسى تاريخي القديم وأصنع من الجديد تاريخاً مختلفاً. سوف أجعل الرحمة تشمل الجميع وسوف أسمع كل مناجٍ وأجيبه. سأكون فرحاً بمن يسأل وسأكون إليه قريباً بل أقرب إليه من حبل الغسيل لأشعة الشمس ظهيرة يوم لاهب.
فرك لحيته ودقق في خصلات شعره وراح يقول: سأعمل! نعم سوف أجد عملاً ولن أكون بلا عمل وشغل شاغل أبداً بعد الآن. سوف أكون رباً مثالياً، حقيقياً، صادقاً، حيوياً حقاً وأترك لعب الأوغاد وأعتزل مهنة السياسة الربانية هذه التي لم تُدخل على قلبي السؤدد أبداً.
صاح الله ربهم ورب آبائهم على ملائكته وأمرهم بجملة من الأوامر الجديدة. طلب الله أولاً إزالة جميع أيام العطل والإجازات التي خصصها له البشر وأمر بإنهاء وإرجاع أي هدايا كانت قُدمت له كتضحية من الكائنات. استوى بعدها واستوى وراح يبتسم ابتسامة مليئة بالرقة وأضحت أسنانه بارزة لامعة كنجوم مشعة بدياجي الليل.
أمرهم الله بتوزيع جميع ما يملك على كل الكائنات المحتاجة في السماوات وبقية الأكوان. طلب من نفسه الغفران وزاغ ببصره عن الآثام والخذلان. وراح يتماهى رشيقاً بوجدان.
طلب منهم أن يعملوا محضراً كاملاً بكل الأدعية والطلبات والمناجاة والتوسلات والخطب. وقال الله ربنا وربكم أجمعين: هاتوا ما أنتم طامحين، أنا اليوم لكم لست ماكراً بعد الآن.
أمسك بيديه قائمة المحضر المليء بالدموع والرزايا والآهات. فتح أول صفحة وراح يقرأ وهطلت دموعه على وجنتيه مثل سيل جارف. بكى الله لأول مرة! بكى ويا لها من بكية شقت وجه الزمان. بكى لأنه نسي نفسه ونسي الإنسان، ونسي كل شيء حتى نسي ما هو كان.
مد إسرافيل يده مقدماً منديلاً من قطن، وقابله الله بالتمنع وأنه يريد أن يضع دموعه على التاريخ الجاف ويريد أن يملأه دفئاً وحياة مرة أخرى. استجاب إسرافيل وقرأ على الملأ كلمات ربه ونفخ في الصور أن لا موت بعد الآن! لا موت؟! كيف؟ هل ستتوقف الحروب والانفجارات؟ هل سيعود الفتى المقتول ظلماً إلى أهله فرحاً؟ هل ستعود النقود التي ضيعها الشاب في يوم الأعياد؟ هل وهل..؟!
تنططت الأسئلة من هنا وهناك والكل يسأل ولا يدري. والله كان منغمراً في خلده والدموع من عينيه تصب صبيباً غيثاً. قلب الله آلاف الطلبات وآلاف الصفحات.
قرأ القصص القديمة والدعوات للآباء يوم توقفت بهم سبل الحياة وتوجع قلبه لما رأى وشعر به من ضنى وآلام. أخذ طويلاً وطويلاً يبكي بحسرة وحسرات وآهات هي الأولى من نوعها على رب كريم وعزيز! وكيف لا وكان هو رب لا يبكي ولا يجزع ولا يفرح ولا يحب الفرحين؟
غضب الله وراح ينادي ويزمجر بعد ما رأى من هول القصص والحوادث والكوارث التي صنعتها يداه. وسأل نفسه وهو يضرب ناصية وجهه ويلطم فخذه والأكوان تموج بأفعاله: كيف قدرت لنفسي هذه الأفعال الشنعاء؟ وكيف سولت لي يدي الكريمة المباركة هذه التصرفات القبيحة؟
كأن فيه اهانة ولا أنا فهمت غلط؟
مافهمت ؟